فصل: فصل في ذِكْرِ أَشْيَاءَ تَحْرُمُ وَيَتَأَكَّدُ تَحْرِيمُهَا فِي حَقِّ الصَّائِمِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في ذِكْرِ أَشْيَاءَ تَحْرُمُ وَيَتَأَكَّدُ تَحْرِيمُهَا فِي حَقِّ الصَّائِمِ:

يَجبُ اجْتِنَابُ كُلِّ كِذْبٍ مُحَرَّمٍ، أَمَّا الكَذِبُ لِتَخْلِيصِ مَعْصُومٍ مِنْ قَتْلِ فَوَاجبٌ. قُلْتُ: وَيَتَرجَّحُ عِندي مِثْلُهُ أَيْضًا تَخْلِيصُ مَالِهِ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ قَاطِعِ طَرِيقٍ أَوْ غَاصِبٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَالْمَالُ مُثْمَنٌ وَالأَحْسَنُ يَتَأَوَّلُ، وَلإصْلاحٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْن فَمُبَاحٌ لِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولَُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يَنْمِى خَيْرًا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الدَّاعِي إلى الكَذِب مَحَبَّةُ النَّفْعِ الدُّنْيَوِي وَحُبُّ التُّرَاثِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُخْبِرَ يَرَى أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى الْمُخْبَر بِمَا عَلَّمَهُ فَهُوَ يَتْشَبَّهُ بِالعَالِمِ الفَاضِلِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ يَجْلِبُ بِمَا يَقُولُهُ فَضْلاً وَمَسَرَّةً وَهُوَ يَجلِبُ بِهِ نَقْصًا وَفَضِيحَةً فَالكذِبُ رَذِيلَةٌ مَحْضَةٌ مِنْ أَرْذَلِ الرَّذَائِلِ يُنْبِئُ عَنْ تَغَلْغُلِ الفَسَادِ فِي نَفْسِ صَاحِبَها وَعَنْ سُلُوكٍ يُنْشِئُ الشَّرَّ إنْشَاءً فَالكَذِبُ يَتَصَدَّعُ بِهِ بُنْيَانُ المَجْتَمَعِ وَبِهِ يَخْتَلُّ سَيْرُ الأُمُورِ، وَيُسْقِطُ صَاحِبَهُ مِنْ العُيُونِ وَلا يُوثَقُ فِي قَوْلِهِ، وَلا يُوثَقُ بِهِ فِي عَمَلٍ، وَلا يَرْغَبُ لَهُ مَجْلِسٌ، وَأَحْادِيثُهُ عِنْدَ النَّاسِ مَتْرُوكَةٌ، وَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُطْبَعُ الْمُؤمِنُ عَلَى الخِلالِ كُلَّهَا إِلا الخِيَانَةَ وَالكذِبَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَعَنْ بَهْزِ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «وَيْلٌ لِلْذِي يُحَدِّثُ لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ».
وَعَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْكَذِبِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَذْبَةَ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعَلَمَ أَنَّهُ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَكُونُ الْمُؤمِنُ كذَّابًا قَالَ: «لا». الحَدِيثِ رَوَاهُ مَالِكُ، وَالبَيْهَقِي فِي شُعَبْ الإِيمَانِ.
وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: إِيَّاكَ وَالكَذِبَ فَإنَّهُ يُفْسِدُ عَلَيْكَ تَصَوُّرَ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَيُفْسِدُ عَلَيْكَ تَصْوِيرَهَا وَتَعْلِيمَهَا لِلنَّاسِ فَإنَّ الكَاذِبَ يُصَوِّرُ الْمَعْدُومَ مَوْجُودًا وَالْمَوْجُودَ مَعْدُومَا وَالحَقَّ بَاطِلاً وَالبَاطِلَ حَقًّا وَالخَيْرَ شَرًّا فَيُفْسَدُ عَلَيْهِ تَصْوُّرَهُ وَعِلْمَهُ عُقُوبَةً لَهُ ثُمَّ يُصَوِّرُ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْمُخَاطَبِ الْمُغْتَرِ بِهِ الرَّاكِنُ إِلَيْهِ فَيُفسِدُ عَلَيْهِ تَصَوُّرَهُ وَعِلْمَه وَنَفْسُ الكَاذِبِ مُعْرِضَة عَنْ الحَقِيقَةِ الْمَوْجُودَةِ تَرَّاعَةٌ إِلى العَدَمِ مُؤْثِرَةٌ لِلْبَاطِلِ وَلِهَذَا كَانَ الكَذِبُ أَسَاسُ الفُجُورِ.
كَمَا قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ». وَأَولُ مَا يَسْرِي الكذِبُ مِنْ النَّفْسِ إِلى اللِّسَانِ فَيُفْسِدُهُ ثُمِّ يَسْرِي إلى الجَوَارِحِ فَيُفْسِدُ عَلَيْهَا أَعْمَالَهَا كَمَا أَفْسَدَ عَلَى اللسَانِ أَقْوَالِهِ فَيَعُمُّ الكَذِبَ أَقْوَالَهُ وأعْمَالَهُ وَأَحْوَالَهُ فَيَسْتَحْكِمُ عَلَيْهِ الفَسَادُ وَيَتَرَامَى دَاؤهُ إلى الهُلَكَةِ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللهُ بِدَوَاءِ الصِّدْقِ بِقَلْعِ تِلْكَ الْمَادَّةِ مِنْ أَصْلِهَا.
وَلِهَذَا كَانَ أَصْلُ أَعْمَالِ القُلُوبِ كُلِّهَا الصِّدْقَ وَأَضْدَادُهَا مِنْ الرِّيَاءِ وَالعُجْبِ وَالكِبُرِ وَالفَخْرِ والخُيلاءِ وَالبَطَرِ وَالأشَر والعَجْزِ وَالكَسَلَ وَالجُبْنِ وَالْمَهَانَةِ وَغَيْرِهَا أَصْلُهَا الكَذِبُ فَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ ظَاهِرٌ أَوْ بَاطِنٌ فَمَنْشَؤُهُ الصِّدْقُ وَكُلُّ عَمَلٍ فَاسِدٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ فَمَنْشَؤُوهُ الكَذِبُ، وَاللهُ تَعَالى يُعَاقِبُ الكَذَّابَ بَأَنْ يُقْعِدَهُ وَيُثَبِّطَهُ عَنْ مَصَالِحِهِ وَمَنَافِعِهِ وَيُثِيبُ الصَّادِقَ بَأَنْ يُوَفِّقَهُ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ.
وكان الصدق في صدر الإسلام أساسًا في القول والعمل والمعاملة، وخصوصًا فيما يتعلق بالدين وحفظ الحديث.
فقد وُرِثَتْ عن العُلماء الأوائل عُلومُ الدين مَضْبُوطة كامِلَةً كَمَا أُنزِلَت على رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وحَدَّث عنها.
وكان عُلماءُ الدين وجامِعُوا أَحَادِيثِ النبي صلى الله عليه وسلم يَتَحرونَ صِدقَ الُمَحِّدِث بِشَكْلٍ عَجِيبٍ.
يَدْرُسُونَ حَيَاتَه وَيَتَحقَّقونَ مِنْ أَقواله وأَعماله وأنه يأكل مِنْ كسْب يَدِهِ وَلَمْ يَدخل على سلطان في صُحْبَةٍ أَوْ وَظِيفَةٍ.
وَأنه يُطبّقُ تَعَالِيمَ الدِّينِ كَاملةً ولم تُعْهَدْ عليه كِذْبَة في حَيَاته. فعندها يُؤْخَذُ عنه الحديث النبوي.
ومثالٌ عَلَى مَا ذُكِرَ عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سَمِعَ بِوجُودِ حَدِيثٍ عندَ عَالمٍ بدمَشق فسافَر إليهِ مِنْ بغداد حتى وَصَل دمشق فمكث مُدَّةً يسأل عن العالم وعن أخلاقه وَمُعَامَلِته وكلامه.
حتى إذا وَثَقَ مِن صِدقه أتاه مُبَكِّرًا بعد أن اغتسل وتطيب ولبس أحسنَ ثيابِه إجْلالاً لِلْحَدِيثِ وَلِمَنْ يحمله.
ولما اقتربَ مِن بَيْته وَجَدَ العَالِمَ خارجًا مِن بَيْتهِ يَقودُ حِمارَهُ وقد كان حَمَالاً يَكتَسِبُ رِزقَه.
فَرَفَضَ الحِمَارُ أَنْ يَسِيرَ مَعهُ فَحاوَل أَنْ يَجُره أو يسُوقه بمُخْتَلَفِ الوَسَائِلِ وَيأْبَى الحِمار.
فَجَمَعَ لَه طَرفَ جُبَّتِهِ وَقَدَّمَهُ لِلْحِمارِ لِيُوهِمه أَنَّ في الجُبَّةِ شَعِير أَو نحوه فَتَبعَه الحِمَار.
فَنَظَر الإِمام أحمد إلى الجبة فوجَدَهَا خَالِيَةً ما فيها شيء.
فَتَرَكَ أحمدُ العالم والأخْذَ عنه حَيثُ تَبَيَّنَ له كَذبُهُ على الحِمار.
فلا يُؤْتَمَن على الحديث الشريف. اهـ.
سَلامِي عَلَى أَهْلِ الحَدِيثِ فَإِنَّنِي ** نَشَأْتُ عَلَى حُبِّ الأَحَادِيثَ مِن مَهْدِي

هُمُوا بَذَلُوا في حِفْظِ سُنَّةِ أَحْمَدٍ ** وَتَنْقِيحِهَا مِنْ جُهْدِهِمْ غَايةَ الْجُهْدِ

وَأَعْنِي بِهِ أَسْلافَ أُمَّةِ أَحْمَدٍ ** أُولَئكَ في بَيْتِ القَصِيدِ هُمُوا قَصْدِي

أُوَلئكَ أَمْثَالِ البُخَارِي وَمُسْلمٍ ** وَأَحْمَدَ أَهْلُ الجِدِّ فِي العِلم والجَدِّ

بُحُورٌ وَحَاشَاهُمْ عَنْ الجَزْر إِنَّمَا ** لَهُمْ مَدَدٌ يَأْتِي مِنْ اللهِ بالمدِّ

رَوَوْا وَارْتَوَوْا مِنْ بَحْرِ عِلْمِ مُحَمَّدٍ ** وَلَيْسَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْمَذَاهِبِ مِنْ وَرْدِ

كَفَاهُمْ كتابُ اللهِ وَالسُّنَةُ التِي ** كَفَتْ قَبْلَهم صَحْبَ الرَّسُولِ ذَوِي المَجْدِ

فَمُقْتَدِيًا بَالحقِ كُنْ لا مُقَلِّدَا ** وَخَلِّ أَخَا التَّقْلِيدِ فِي الأَسْرِ بالقدِّ

فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمَقِّلدِ في الهُدى ** وَمَنْ يَقْتَدِي وَالضِّدُّ يُعْرَفُ بالضِّدّ

فَمَنْ يَقْتَدِي أَضْحَى إِمَام مَعَارَفٍ ** وَكَانَ أُوَيْسًا فِي العِبَادَةِ وَالزُّهْد

فَمَا اسْتُجْلِبَتْ مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ بِمِثْلِ الصِّدْقِ وَلا مَفَاسِدُهُمَا وَمَضَارُّهُمَا بِمِثْلِ الكَذِبْ قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}، وَقَالَ: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}، وَقَالَ: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ}.
عَلَيْكَ بِالصِّدِقِ وَلَوْ أَنَّهُ ** أَحْرَقَكَ الصِّدْقُ بِنَارِ الوَعِيدْ

وَاطْلُبْ رِضَى المَوْلَى فَأشقى الوَرَى ** مَنْ أَسْخَطَ المَوْلَى وَأَرْضَى العَبِيدْ

آخر:
عَوِّدْ لِسَانَكَ قَوْلَ الصِّدْقِ تَحْظَ بِهِ ** إِنَّ الِّلسَانَ لِمَا عَوَّدْتَ يَعْتَادُ

مُوَكَّلٌ بِتَقَاضِي مَا سَنَنْتَ لَهُ ** فِي الصِّدْقِ وَالكِذْبِ فَانْظُرْ كَيْفَ يَرْتَادُ

اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل في بَيَانِ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ:
وَيَتَنَوَّعُ الكَذِبُ إِلى أَنْوَاعٍ، فَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بَأَمْوَالِ النَّاسِ وَأَعْرَاضِهم وَأَنْفُسِهم هُوَ مِنْ أَشَدِّ الكَبَائِرِ وَأَقْبَحِ الجَرَائمِ التي تُضِرُّ بَالْمُجْتَمعِ الإِنْسَانِي، وَتَقْضِي عَلى العَدْلِ، فإنَّ الذِي يَقُولُ الزُّورَ لِيَقْتَطِعَ حُقُوقَ عِبَادِ اللهِ أَوْ يَثْلِمَهُمْ فِي أَعْرَاضِهِمْ مِنْ كُلِّ مَا يَضُرُّ الإِنْسَانِيَّةَ وَيُؤْلِمُهَا.
وَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِغَضَبِ اللهِ وَكَانَ سَبَبًا في بَثِّ الفَوْضَى وَإِغْرَاءِ الْمُجْرِمِينَ عَلى اقْتِرَافِ الْجَرَائِمْ فَيَنَالُونَ مِنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ وَهُمْ آمِنُونَ مِنْ العُقُوبَةِ لأَنَّهُمْ يَجِدُونَ شَاهِدَ الزُّورِ يُسَاعِدُهُمْ عَلَى الإفْلاتِ مِنْهَا، وَقَدْ أَكْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَرَ قَوْلِ الزُّورِ وَأَعْظَمَ جُرْمَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ قَالَ: «الإِشْرَاكُ بَاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ». وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: «أَلا وَقَوْلَ الزُّورِ». فَمَا زَالَ يُكرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. فَجُلُوسُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ اتِّكَائِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَصَدَّرَ قَوْلُه بَأَدَاةِ التَّنْبِيهِ وَكَرَّرَ كَلِمَتَهُ حَتَّى شَقَّ عَلَى نَفْسِهِ وبَدَا الغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، وَتَمَنَّى أَصْحَابُهُ لَوْ سَكَتَ.
وَقَوْلُ الزُّورِ يَشْمَلُ الشَّهَادَةَ بِالبَاطِلِ وَالْحُكْمَ الْجَائِرَ وَرَمْيَ الأَبْرِيَاءِ وَالْقَوْلَ عَلَى اللهِ بِلا عِلْمٍ.
وَعَنْ خُرَيْمِ بِنْ فَاتِكٍ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا، فَقَالَ: «عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالإشْرَاكِ بِاللَّهِ». ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَرَأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وابْنُ مَاجَة.
وَشَاهِدُ الزُّورِ يُسِيءُ إِلى نَفْسِهِ إِذْ يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَيُسِيءُ إِلى مَنْ شَهِدَ لَهُ بِإعَانَتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، وَيُسِيءُ إِلى منْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ في إِضَاعَةِ حَقِّهِ، وَيُسِيءُ إِلى القَاضِي الذي جَلَسَ يَتَحَرَّى الْعَدْلَ لِيحُكُم بِهِ وَيُنْصِفَ الضّعَفَاءِ مِنْ الأَقْوِيَاءِ وَيَنْتَزِعَ حَقَّ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمَ بَأَنَّهُ بِشَهَادَتِهِ بِالزُّورِ يُظَلِّلُه وَيَسُدُّ أَمَامَهُ طَرِيقَ الْحَقِّ وَيَفْتَحْ بَابَ البَاطِلِ.
وَبِهَذَا يَشُلُّ يَدَ العَدَالَةِ أَنْ تَقْتَصَّ لِلْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ وَيُسِيءُ شَاهِدُ الزُّورِ إِلى أَوْلادِهِ وَأُسْرَتِهِ لأَنَّهُ يُلَوِّثَهَا بِهَذِهِ السُّمْعَةِ السَّيِّئَةِ وَالفَائِهَةِ القَبِيحَةِ وَيَحْمِلُ النَّاسَ عَلى أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ عَائِلَةُ الْمُزَوِّرِ، وَأَعْظِمْ بِهَا مِنْ أَذِيَّةٍ لِلْمُسْتَقِيمِينَ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الكَذبَ مِنْ صِفَاتِ النِّفَاقِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن الشَّكِ بَعْدَ اليَقِينِ، وَمِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ومِن شَدَائِدِ يَوْم الدِّين، وَنَسْأَلُكَ رِضَاكَ وَالْجَنَّةِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ والنَّارِ، اللَّهُمَّ أَتْمِِمْ عَلَيْنَا نِعْمَتِكَ الوَافِيَةَ وَارْزُقْنَا الإِخْلاصَ فِي أَعْمَالِنَا وَالصِّدْقَ فِي أَقْوَالِنَا وَعُدْ عَلَيْنَا بإصْلاحِ قُلُوبِنَا وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل في التَّحْذِيرِ مِنْ الغِيبَةِ:
وَيَجِبُ اجْتِنَابَ الغَيْبَةِ قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} أَيْ لا يَتَنَاوَلْ بَعْضُكُمْ بَعْضَا بِظَهْرِ الغَيْبِ بِمَا يَسُوؤُهُ ثُمَّ ضَرَبَ تَعَالَى لِلْغَيْبَةِ مَثَلاً فَقَالَ: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ»، وَعَنْ البرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَرْبَى الرِّبَى اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ». وَفي الْحَدِيثِ الآخر: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «أَنَّ مِنْ الكَبَائِرِ اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ». فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَلِّل كَلامَهُ إلا في ذكْرِ الله وَمَا وَلاهُ لِيَسْلَمُ وَيَغْنَمْ.
أسْنَى كَلامِكَ مَا أَردْتَ بِفِعْلِهِ ** رُشْدًا وَخَيْر كَلامِكَ التَّسْبِيحُ

آخر:
أَقْلِلْ كَلامَكَ وَاسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهِ ** إِنَّ البَلاءَ بِبَعْضِهِ مَقْرُونُ

وَاحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْتَفِظْ مِنْ غَيِّه ** حَتَّى يَكُونَ كَأنَّهُ مَسْجُونُ

وَكِّلْ فُؤادَكَ باللِّسَانِ وَقُلْ لَهُ ** إِنَّ الكَلامَ عَلَيْكُمَا مَوْزُونُ

آخر:
إِنْ صُمْتَ عَنْ مَأكل العَادِي وَمَشْربِهِ ** فَلا تُحَاولْ عَلَى الأَعْراضِ إِفْطَارَا

يَغْدُ عَلَى كَسْبِ دِينَارٍ أَخُو عَمَلَ ** لَوْ يُوزَنُ الإِثْمُ فِيهِ كَانَ قِنْطَارَا

وَعَنْ سَعِيدِ بن زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الاسْتِطَالة في عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الغِيبَةُ؟ قِيلَ: قَدْ حَدَّهَا النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ رَوَى أَبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ». قال: أحدهم: أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ الغَيْبَةِ التَّمْثِيلِيَّاتِ لِلأَشْخَاصِ وَالْهَيْئَاتِ وَمُحَاكَاتِهِمْ في اللِّبَاسِ عَلَى وَجْهِ التَّنَقُّصِ وَالاسْتِهْتَارِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُنْهَمِكُونَ فِي أَكْلِ لُحُومِ الغَوَافِلِ. فَتَكُونُ الغِيبَةُ بِالتَّعْرِيضِ وَبِالكِنَايَةِ وَبِالْحَرَكَةِ وَبِالرَّمْزِ وَالإِشَارَةِ بِاليَدِ وَكُلُّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الغِيبَةِ وَهُوَ حَرَامٌ.
فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيْنَا امْرَأةٌ فَلَمَّا وَلَّتْ أَوْمَأَتُ بِيَدِي أَيْ قَصِيرَةُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «اغْتَبْتِهَا». وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرمِذِي وَصَحَّحَهُ، قَوْلُ عَائِشَةَ عَنْ صَفِيَّةَ أَنَّهَا: قَصِيرَةٌ وَأَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ».
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بَالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَنَظَرَ فِي البَابِ فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيف، قال: مَنْ هَؤُلاء يَا أَخِي يَا جِبْرِيلُ؟» قَالَ الذين يَأكُلُونَ لُحُومَ النَّاس.
عَلامَ رَغِبْتَ بَالأَوْزَار حَتَّى ** رَغِبْتَ عَنْ القِيامِ بَكُلِّ فَرْضِ

بِضُرِّ النَّاسِ كَمْ تَغْدُوا وَلُوْعًا ** بَأَنْيَابِ تُمَزِّقُ كُلَّ عَرْضِ

فَوَاعَجَبًا لِمُغْتَابٍ زَنِيم ** بِزُورِ القَوْلِ وَالبُهْتَانِ يَمْضِي

وَلَمْ يَخْتَرْ سُلُوكًا غَيْرَ غَدْرٍ ** بِهِ قَرْضَ الأَكَارِمَ شَرَّ قَرْضِ

يَظَلُّ عَلَى الفَسَادِ وَلَيْسَ يَدْرِي ** بَأَنَّ الله بَيْنَ النَّاسِ يَقْضِي

آخر:
بَلاءٌ لَيْسَ يُشْبِهُهُ بَلاء ** عَدَاوَةِ غَيْرَ ذِي حَسَبٍ وَدِينِ

يُبِيحُكَ مِنْهُ عِرْضًا لَمْ يَصُنْهُ ** وَيَرْتَعُ مِنْكَ فِي عِرْض مَصُون

آخر:
إِذَا لَؤمَ الفَتَى لَمْ يَخْشَ مِمَّا ** يُقَالُ وَإِنْ تَرَادَفَهُ الملامُ

آخر:
وَذِي حَسَدٍ يَغْتَابُنِي حَيْثُ لا يَرَى ** مَكَانِي وَيُثْنِي صَالحًا حَيْثُ أَسْمَعُ

تَوَرَّعْتُ أَنْ أغْتَابَهُ مِنْ وَرَائِهِ ** بِمَا لَيْسَ فيهِ وَهُوَ لا يَتَوَرَّعُ

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْلَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا فِي جَهَنَّمَ، وَمَنْ كُسِيَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ فِي جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ بِهِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
فَالغِيبَةُ عَادَةٌ مَرْذُوَلَةٌ، كَثِيرًا مَا تَقْطَعُ الصِّلَةَ بَيْنَ النَّاسِ، وَتُثِيرُ الأَحْقَادَ، وَتُشَتِّتُ الشَّمْلَ، ثُمَّ هِيَ مَعْ ذَلِكَ مَضِيَعَةٌ لِلْوَقْتِ بَالاشْتِغَالِ بِمَا يَضُرُّ الإِنْسَانَ، وَلا يَنْفَعُهُ. وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ تَحْرِيمُ الغِيبَةِ وَخَطَرُهَا وَشَرّهَا فَإِذًا يَجِبُ الإنْكَارُ عَلَى الْمُغْتَابِ وَرَدْعُهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ إلا خَذَلَهُ اللهُ في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ امْرئٍ مُسْلِمٍ يَنْصُرُ امْرَءًا مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلا نَصَرَهُ اللهُ في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ».
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ فَلَمْ يَنْصُرْهُ أَذَلِّهُ اللهُ عَلَى رُؤوسِ الْخَلائِقِ».
وَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ: لا يُعْجِبَنَّكُمْ مِنْ الرَّجُلِ طَفْطَفَتُهُ وَلَكِنْ مِنْ أَدَّى الأَمَانَةَ، وَكَفَّ عَنْ أعْرَاضِ النَّاسِ فَهُوَ الرَّجُلُ. وَقَالَ أَيْضًا: كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ يَسْتَبِينَ لَهُ مِنْ النَّاسِ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَيَمْقَتُ النَّاسَ عَلَى مَا يَأْتِي.
قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: اعْلَمْ أَنَّ الغِيْبَةِ مَعَ تَحْرِيمِهَا شَرْعًا وَعَقْلاً هِيَ عَيْنُ العَجْز وَنَفْسُ اللُؤْمِ وَدَلِيلُ النَّقْصَ تَأبَاهَا العُقُولُ الكَامِلَةُ وَالنُّفُوسُ الفَاضِلَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ انْحِطَاطِ الرُّتْبَةِ وَانْخِفَاضِ الْمَنْزِلَةِ. قَالَ عَلَيُّ بن الْحُسَيْنَ: الغِيْبَةِ إِدَامُ كِلابِ الناسِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: يَا ابْنَ آدَمَ لَنْ تَنَالَ حَقِيقَةَ الإيمَانِ حَتَّى لا تَعِيبَ النَّاسَ بِعَيْبٍ هُوَ فِيكَ وَتَبْدَأَ بِذَلِكَ الْعَيْبِ مِنْ نَفْسِكَ فَتُصْلِحهُ فَمَا تُصْلِحُ عَيْبًا إِلا تَرَى عَيْبًا آخَرَ فَيَكُونُ شُغْلُكَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِكَ. وَقِيلَ لِرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمْ: مَا نَرَاكَ تَعِيبُ أَحَدًا وَلا تَذُمُّهُ فَقَالَ: مَا أَنَا عَلَى نَفْسِي بِرَاضٍ فَأَتَفَرَّغَ مِنْ عَيْبِهَا إلى غَيْرِهَا وَلَقَدْ أَحْسَنَ القَائِلُ:
شَرُّ الوَرَى مَنْ بِعَيْبِ النَّاسِ مُشْتَغِلاً ** مُثْلُ الذُّبَابِ يُرَاعِي مَوْضِعْ العِلَل

آخر:
وَأُكْرِرُ نَفْسِي عَنْ جَزَاءِ بِغِيبَةٍ ** وَكُلُّ اغْتِيَابٍِ جُهْدُ مَا لا لَهُ جُهْدُ

آخر:
إِيَّاكَ إيَّاكَ أَعْرَاضَ الرِّجَالِ فَإِنْ ** رَاقَتْ بِفِيْكَ فَإِنَّ السُّمَ فِي الدَّسَم

آخر:
إِذَا مَا ذَكَرْتَ النَّاسَ فَاتْرُكْ عُيُوبِهُمْ ** فَلا عَيْبَ إلا دُونَ مَا مِنْكَ يُذْكَرُ

فَإِنْ عِبْتَ قَوْمًا بِالذي هُوَ فِيهَمْ ** فَذَلِكَ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ مُنْكَرُ

آخر:
يَمْنَعُنِي مِنْ عَيْبِ غَيْرِي الذِي ** أَعْرَفُهُ عَنْدِي مِنْ العَيْبِ

عَيْبِي لهمُ بالظن مِنّي بَدَا ** وَلَسْتَ مِنْ عَيْبِي فِي رَيْبِ

إِنْ كَانَ عَيْبِي غَابَ عَنْهُمْ فَقَدْ ** أَحْصَى عُيوبِي عَالم الغَيْب

وَبالتَّالِي فَخَطَرُ اللِّسَانِ عَظِيمٌ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنْ الأَعْضَاءِ فَإِنَّ العَيْنَ لا تَصِلُ إِلى غَيْرِ الأَلْوَانِ وَالصُّوَرِ وَالأُذَنُ لا تَصِلُ إلى غَيْرِ الأَصْوَاتِ وَاليَدُ لا تَصِلُ إِلى غَيْرِ الأَجْسَامِ وَاللَّسَانُ يَجُولُ في كُلِّ شَيْءٍ وَبِهِ يَبِينُ الإيمَانُ مِنْ الكُفْرِ.
لعُمْركَ مَا لِلْمَرْءِ كالرَّبِ حَافِظُ ** وَلَيْسَ سِوَى القُرْآن لِلْمَرْءِ وَاعِظُ

لِسَانك لا يُلقِيكَ فِي الغي لَفَظُهُ ** فَإِنَّكَ مَأْخُوذٌ بِمَا أَنْتَ لافِظُ

وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بِنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لا يَسْتَقِيمَ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُه وَلا يَسْتَقِيمَ قَلْبُه حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ».
قُل لِلَّذي لَسْتُ أَدْرِي مِن تَلَوُّنِهِ ** أَنَاصِحٌ أَمْ عَلى غِشٍّ يُداجيني

إِنّي لأَكْثِرُ مِمّا سُمتَني عَجَبًا ** يَدٌ تَشُجُّ وَأُخْرَى مِنْكَ تَأسُوني

تَغتابَني عِنْدَ أَقْوَامٍ وَتَمْدَحُنِي ** في آخَرينَ وَكُلٌّ عَنْكَ يَأتِينِي

هَذَانِ أَمْرَانِ شَتَّى الْبَوْنُ بَينَهُمَا ** فَاِكفُف لِسَانَك عَن ذمِّي وَتَزَينِي

لَو كُنْتُ أَعْلَمُ مِنْكَ الوِدَّ هَانَ إذًا ** عَلَيَّ بَعْضُ الَّذي أَصْبَحْتَ تُولِينِي

لا أَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي ضَمَائِرهم ** مَا فِي ضَمِيري لهمُ مِن ذَاكَ يَكْفِينِي

أَرْضَى عن الْمَرْءِ مَا أَصْفَى مَوْدَّتَهُ ** وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ البَغْضَاءِ يُرْضِينِي

وَاللهِ لَوْ كَرِهَتْ كَفِّي مُصَاحَبَتِي ** لَقُلْتُ إِذْ كَرِهَتْ قُرْبى لَهَا بَيْنِي

ثم انْثَنَيْتُ على الأخْرَى فَقُلْتُ لَهَا ** أَنْ تُسْنِدِينِي وِإلا مِثْلَهَا كُونِي

لا أَبْتَغِي وُدَّ مَنْ يَبْغِي مُقَاطَعَتِي ** وَلا أَليِنُ لِمَنْ لا يَبْتَغِي لَيْنِي

إِنِّي كَذَاكَ إِذَا أَمْرٌ تَعرَّضَ لِي ** خَشِيتُ مِنْهُ عَلَى دُنْيَايَ أَوْ دِينِي

خَرَجْتُ مِنْهُ وَعِرْضِي مَا أُدَنّسُهُ ** وَلَمْ أَقُمْ غَرَضًا لِلَّنْذِلِ يَرْمِينِي

رُبَّ امرِئٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْ مُلاطَفتِي ** مَحْضِ المَوَدَّةِ في البَلْوَى يُوَاسِينِي

ومُلْطفٍ بِي مُدَارٍ ذِي مُكَاشَرةٍ ** مُغْضٍ عَلَى وَغَر في الصَّدْرِ مَكْنُونِ

لَيْسَ الصَّدِيقُ الذي تُخْشَى بَوَادرهُ ** وَلا العَدُوّ عَلَى حال بِمَأمُونِ

يَلُومنِي النَّاسُ فِيمَا لَوْ أُخُبِّرِهُم ** بالعُذْرِ مِنِّي فِيه لَمْ يَلُومُونِي

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمالِ وَاكْفِنَا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرْ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فصل:
وَفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَزِلُّ بِهَا في النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ». وَأَخْرَجَ الترمِذي وَلَفْظهُ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنَ الشَّرِّ مَا يَعْلَمُ مَبْلَغَهَا يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ». رَوَاهُ في شَرْحِ السُّنَّةِ، وَرَوَاهُ مَالِكُ، وَالتِّرْمِذي، وَابْنُ مَاجَة نَحْوَهُ.
فَالغِيبَةُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَمِنَ الذُّنُوبِ التِّي قَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْهَا كَالكَذِبِ وَالرِّيَاءِ وَالرِّبَا وَالمُدَاهَنَة.
وَإِذَا فَهِمْتَ مَا سَبَقَ فَاعْلَمْ أَنَّ الذُّنُوبَ المُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ العِبَادِ لا تُمْحَى إلا أَنْ عَفَوْا عَنْهَا أَوْ رُدَّتْ لَهُمْ مَظَالِمَهُمْ، فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللهِ ثَلاثَةٌ: دِيوَانٌ لا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيْئاً، وَدِيوَانٌ لا يَتْرُكُ اللهُ مِنْهُ شَيْئاً، وَدِيوَانٌ لا يَغْفِرُهُ اللهُ فَأَمَّا الدِّيوَانُ الذِي لا يَغْفِرُهُ اللهُ فَالشِّرْكُ بِاللهِ».
قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ}.
وَأَمَّا الذِي لا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيْئاً فَظُلمُ العَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمِ تَرَكَهُ أَوْ صَلاةٍ، فَإِنَّهُ يَغْفِرُ ذَلِكَ وَيَتَجَاوَزَ إنْ شَاءَ، وَأَمَّا الدِّيوَانِ الذِي لا يَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئاً فَظُلمُ العِبَادِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا القِصَاصُ لا مَحَالَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ، وَالحَاكِمْ فِي مُسْتَدْرَكِهِ فَظُلْمُ العَبْدِ نَفْسَهُ بِيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ هُوَ أَخَفُّ الدَّوَاوِينِ وَأَسْرَعُهَا مَحْوًا فَإِنَّهُ يُمْحَى بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ والحَسَنَاتِ المَاحِيَةِ وَالمَصَائِبِ المُكَفِّرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلا رَيْبَ أَنَّ الغِيبَةَ جَنَابَةٌ عَلَى أَعْرَاضِ النَّاسِ وَهُمْ غَافِلُونَ فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يَتَحَلَّلَ لِمَنْ اغْتَابَهُ وَيَطْلُبَ مِنْهُ العَفْوَ إِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَيَتُوبُ وَيَتَنَدَّمُ وَيَسْتَغْفِرُ لِمَنْ اغْتَابَهُ وَيَذْكُرُهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الخِصَالِ الحَسَنَةِ عِنْدَ مَنِ اغْتَابَهُ عِنْدَهُمْ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَرْحَمَهُ وَيَغْفِرَ لَهُ إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ كَفَّارَةِ الغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْتَهُ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُ».
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الغِيبَةِ مَصْلَحَةٌ أَوْ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ كَانَتْ لازِمَةً وَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَمْرٌ جَائِزٌ فَجَائِزَةٌ، وَيُمْكِنْ ضَبْطُ الأَوَّلُ في خَمْسَةِ أُمُورٍ أَوْ سِتَّةِ أُمُورٍ.
الأَوَّلُ: المَظْلُومُ الذِي يُرِيدُ أَنْ يَشْكُو لِمَنْ يَرْفَعُ مَظْلَمَتَهُ، فَلَهُ أَنْ يَذْكُرَ عَيْبَ ظَالِمِهِ الذِي يَحْتَاجُ إِلَيَهِ في بَيَانِ حَقِّهِ.
الثَّانِي: الاسْتِعَانَةُ عَلَى تَغْييرِ المُنْكَرِ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى إِزَالَتِهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَقُولُ: إِنَّ فُلانًا ارْتَكَبَ كَذَا وَفَعَلَ كَذَا.
الثَّالِثُ: الاسْتِفْتَاءُ فَإِنَّهُ يَجُورُ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَقُولَ لِلْمُفْتِي: إِنَّ فُلانًا ظَلَمَنِي فِي كَذَا وَكَذَا، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مَثَلاً؟
الرَّابِعُ: التَّحْذِيرُ فَيُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرَّ مَنْ يَتَصَدَّى لِلزَّعَامَةِ فِي أُمُورِهِمْ العَامَّةُ، أَوْ مَنْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ القَضَاءُ فِي مَصَالِحِهِمْ؛ أَوْ مَنْ يَتَصَدَّى لإفْتَائِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ، كَالزُّعَمَاءِ فِي الشّؤون الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَويَّةِ وَالشُّهُودِ وَالْمُدَرِّسِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّنْ يُشْتَرَطُ فِيهِمْ الأَمَانَةِ والاتِّصَافِ بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا فِيهِمْ مِنْ النَّقَائِصْ وَالعُيُوبِ وَيَرْفَعَ بَأمْرِهِمْ لَيُبْعَدُوا.
الْخَامِسُ: أَنْ يَتَجَاهَرَ بِفِسْقِهِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافَى إلا الْمُجَاهِرُونَ».
حَذَارِ حَذارِ مِنْ شَيْطَانِ إنْسٍ ** بِهِ لَعِبَ الْهَوَى مَع شَرِّ َرَهْطِ

يُرِيكَ تَمَلُّقًا مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ ** وَيُبْدِي لِلخِدَاعِ لِسَانَ بَسْطِ

رُويْدَكَ لا تُغَرَّ بِهِ وَحَاذِرْ ** وُقُوعَكَ فِي حَضِيضِ هَوانِ سُخْطِ

فَلا تَصْحَبْ سِوَى خِلٍّ تَحَلَّى ** بِإيمَانٍ قَويمٍ لَيْسَ يُخْطِي

تَنَلْ عِزًّا وَمَجْدًا وَاعْتِبَارًا ** وَرَبُّكَ خَيْرَ فَضْلٍ مِنْهُ يُعْطِي

اللَّهُمَّ وفقنا لِصَالِح الأعمال واكفنا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِواك إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
فصل:
وَأَسْبَابُ الغِيبَةِ أَحَدَ عَشَرَ:
1- تَشَفِّي الغَيْظِ بِذِكْرِ مَسَاوِي الْمَوْقُوعِ في عِرْضِهِ بِالغِيبَةِ قَوْلاً أَوْ فِعْلاً.
مُوَافَقَةُ الأَقْرَانِ وَالزُّمَلاءِ وَمُسَاعَدَتُهُمْ وَيَرَى ذَلِكَ فِي حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَنْكَر عليهم اسْتَثْقَلُوه فيُسَاعِدُهم على ذلك.
3- أَنْ يَسْتَشْعِرَ مِنْ إِنْسَانٍ أَنَّهُ سَيَقْصِدُهُ وَيُطَوِّلُ لِسَانَهُ عَلَيْهِ أَوْ يَقْبِّحَ حَالَهُ عِنْدَ مُحْتَشِمٍ فَيُبَادِرَهُ فَيَطْعَنُ فِيهِ لِيُسْقِطَ شَهَادَتَهُ أَوْ يَبْتَدِئ بِذكر ما فيه صَادِقًا عَلَيْهِ لِيَكْذِبَ عَلَيْهِ بَعْدَهُ فَيُروجُ كذِبَهُ بِالصِّدْقِ الأول نَسأل الله العافية.
وَلْيَحْذَرِ الإنْسَانُ مِنْ ذِي الوَجْهَين الذي يَأْتِي هَؤُلاء بوجْه وهَؤُلاء بوجه قال بعضهم:
يَسْعَى عَلَيْكَ كَمَا يَسْعَى إِلَيْكَ فَلا ** تَأْمَنْ غَوَائِلَ ذِي وَجْهَينُ كَذَّاب

4- أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فَيَذْكُرَ أَنَّ الذِي فَعَلَهُ فُلانٌ وَيَتَبَرَّأَ مِنْهُ مَعَ أَنَّ التَّبَرُّأَ يَحْصَلُ بِدُونِ أَنْ يَذْكُرَ الغَيْرَ بِشَخْصِهِ.
5- أَنْ يَنْطَوِي عَلَى عَدَاوَةِ شَخْصٍ وَيَحْسِدَهُ فَيَرْمِيهِ بِمَساوِئ وَمَعائِبَ يَنْسِبُهَا إِلَيْهِ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ عَنْهُ وَيُسْقِطَ مَهَابَتَهُ وَمَكَانَتَهُ مِنْ النُّفُوسِ وَيَقْصِدُ بِذَلِكَ إِثْبَاتُ فَضْلِ نَفْسِهِ وَلَكِنَّ العَاقِلَ اللَّبِيبَ يَعْرِفُ أَنَّهُ مَا أَضَرُّ عَلَى الأَعْدَاءِ وَلا أَشَدُّ مِنْ التَّمَسُّكِ بِالأَخْلاقِ الفَاضِلَةِ وَالاعْتِرَافِ بالفَضْلِ لأَهْلِهِ كَمَا قِيلَ:
وَمَا عَبَّرَ الإِنْسَانُ عَنْ فَضْلِ نَفْسِهِ ** بِمِثْل اعْتِقَادِ الفَضْلِ فِي كُلِّ فَاضِلِ

وَلَيْسَ مِنْ الإنْصَافِ أَنْ يَدْفَعَ الفَتَى ** يَدَ النَّقْصِ عَنْهُ بِانْتِقَاصِ الأَفَاضِل

آخر:
أَرَى كُلَّ إنْسَانٍ يَرَى عَيْبَ غَيْره ** وَيَعْمَى عَنْ العَيب الذي هو فيه

وما خَيْرُ مَنْ تَخْفَى عَلَيْهِ عُيُوبُهُ ** وَيَبْدُو لَهُ العَيْبُ الذي بَأَخِيهِ

وَكَيْفَ أَرَى عَيْبًا وَعَيْبِي ظَاهِرٌ ** وَمَا يَعْرِفُ السَّوْءاتِ غَيْرُ سَفِيه

فَإِذَا رَأَيْتُ إِنْسَانًا مُبْتَلَى بِسَبِ الغَوَافِلِ وَأَكْلُ لُحُومِهم يُريد بذلكَ رِفعةَ نَفْسِهِ وَخَفْضِ الغَيْرِ كَأنْ يَقُولَ: فلانٌ جَاهِلٌ، أَوْ فَهْمُهُ ضَعِيف، أو لا يُحْسِنُ التعليمَ، أو عِبَارَتُه رَكِيكَةٌ، أَوْ لا يُحْسِنُ الْخِطَابَةَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا تَتَدَرَّجُ بِهِ إِلى إظْهَارِ فَضْلٍ لِنَفْسِهِ بِسَلامتِهِ مِنْ تِلْكَ العُيوبِ وَالنَّقَائِصِ، فَقل له: اتقِ الله هذا لا يَرفَعُكَ وَلا يزيلُ مَا فِيكَ مِن النقائصِ اقْتَصِرْ على تَأملِ عُيوبكَ فَهُو أَوْلَى بِكَ يا مَغْرُور.
6- أَنْ يَقْدَحَ عِنْدَ من يُحِبُّ الشَّخْصَ حَسَدًا لإكَرَامِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ.
7- أَنْ يَقْصِدَ اللَّعِبَ وَالهَزَلَ وَالْمُزَاحَ وَالْمُطَايَبَةِ وَيُضْحِكَ النَّاسِ.
8- السُّخْرِيَةُ وَالاسْتِهْزَاءُ بِالشَّخْصِ اسْتِحْقَارًا لَهُ وَهُوَ يَجْرِي فِي الْحُضُورِ وَالغَيْبَةِ وَمَنْشَؤُهُ التَّكَبُّرُ وَاسْتِصْغَارُ الْمُسْتَهْزَأ بِهِ وَازْدِرَاءُهُ. وَهَذَا غَالبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ نَزلَتْ هِمَّتُهُ وَرَكَّتْ حالتُه وَصَارَ يُضْحِكُ النَّاس.
إِنْ صُمْتَ عَنْ مَأْكَلِ العادي وَمَشْرَبِهِ ** فَلا تُحَاوِلْ عَلَى الأعْرضَ إِفْطَارَا

9- أَنْ يَتَعَجَّبَ مِنْ فِعْلِ الغَائِبِ لِلْمُنْكَرِ وَهَذَا مِنْ الدِّينِ لَكِنْ أَدَّى إِلى الغَيبَةِ بِذِكْرِ اسْمِهِ فَصَارَ مُغْتَابًا مِنْ حَيْثُ لا يَدْرِي.
10- أَنْ يَغْتَمَّ لِسَبَبْ مَا يُبْتَلَى بِهِ فَيَقُولُ مِسْكِينٌ فُلانٌ قَدْ غَمَّنِي أَمْرُهُ وَمَا أبْتُلِي بِهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَغَمّهُ وَرَحْمَتَهُ خَيْرٌ لَكِنْ سَاقَهُ إِلى شَرٍّ وَهُوَ الغِيبَةُ مِنْ حَيْثُ لا يَدْرِي أَنَّهُ صَاغَهَا بِصِيغَةِ التَّرَحُّمِ وَالتَّوَجُّعِ.
11- إظْهَارُ الغَضَبِ للهِ عَلَى مُنْكَرٍ قَارَفَه إِنْسَانٌ فَيَذْكُرُ الإنْسَانَ بِاسْمِهِ وَكَانَ الوَاجِبُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ عَلَى فَاعِلِهِ وَلا يُظْهِرَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ بَلْ يَسْتُرُ اسْمَهُ وَهَذِهِ الثَّلاثَةُ رُبَّمَا تَخْفَى عَلَى العُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ العِلْمِ فَضْلاً عَنْ العَوَامِّ وَلِذَلِكَ تَسْمَعُ مِنْهُمْ كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ فُلانُ وَنِعْمَ لَوْلا أَنَّهُ يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا يُعَامِلُ بالرِّبَا مَثَلاً وَكَانَ الوَاجِبُ نُصْحُهُ بَدَلَ الغِيبَةِ، وَلَكِنْ يَا أَخِي بَشِّرْ الموقوع في عِرْضِهِ بِغيبَةٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ سَبٍّ أَوْ نَمٍّ أَوْ نَحْو ذلك بأنَّهُ سَيَفرحُ وَيَسْترُ حِينَ مَا يَأخُذُ حَسَنَاتٍ مَا تَعِبَ بِهَا فِي لَيْل ولا نَهَارٍ صَيْفٍ وَلا شِتَاءٍ وَهَلْ أَحْلَى وَأَلَذَ مِنْ حَسَنَاتٍ تَأَتِيكَ مَا تَعِبْتَ بِهَا.
يُشَارِكُكَ الْمُغْتَابُ فِي حَسَنَاتِهِ ** وَيُعْطِيكَ أَجْرَى صَوْمِهِ وَصَلاتِه

وَيَحْمِلُ وِزْرًا عَنْكَ ظَنَّ بِحَمْلِهِ ** عَنْ النُّجْبِ مِنْ أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ

فَكَافِيهِ بِالْحُسْنَى وَقُلْ رَبِّ جَازِهِ ** بِخَيْرٍ وَكَفِّرْ عَنْهُ مِنْ سَيَّئَاتِهِ

فَيَا أَيُّهَا الْمُغْتَابُ زِدْنِي فَإِنْ بَقِي ** ثَوَابُ صَلاةٍ أَوْ زَكَاةٍ فَهَاتِهِ

فَغَيْرُ شَقِيٍّ مِنْ يَبِيتُ عَدُوُّهُ ** يُعَامِلُ عَنْهُ اللهَ فِي غَفَلاتِهِ

فَلا تَعْجَبُوا مِنْ جَاهِلٍ ضَرَّ نَفْسَهُ ** بإمْعَانِهِ فِي نَفْعِ بَعْضِ عُدَاتِهِ

وَأَعْجَبُ مِنْهُ عاَقِلٌ بَاتَ سَاخِطًا ** عَلَى رَجُلٍ يُهْدِي لَهُ حَسَنَاتِهِ

وَيَحْمِلُ مِنْ أَوْزَارِهِ وَذُنُوبِهِ ** وَيَهْلَكُ فِي تَخْلِيصِهِ وَنَجَاتِهِ

فَمَنْ يَحْتَمِلْ يَسْتَوْجِبِ الأجْرَ وَالثَّنَا ** وَيُحْمَدُ في الدُّنْيَا وَبَعْدَ وَفَاتِهِ

وَمَنْ يَنْتَصِفْ يَنْفَخْ ضِرًا مَا قَدْ انْطَفَى ** وَيَجْمَعُ أَسْبَابَ الْمَسَاوِي لِذَاتِهِ

فَلا صَالِحٌ يُجْزَى بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ** وَلا حَسَنٌ يُثْنَى بِهِ فِي حَيَاتِهِ

يَظَلَّ أَخُو الإِنْسَانِ يَأْكُلُ لَحْمَهُ ** كَمَا فِي كِتَابِ اللهِ حَالَ مَمَاتِهِ

وَلا يَسْتَحِي مِمَّنْ يَرَاهُ وَيَدَّعِي ** بَأنَّ صِفَاتِ الكَلبِ دُونَ صِفَاتِهِ

وَقَدْ أَكَلا مِنْ لَحْمِ مَيْتٍ كِلاهُمَا ** وَلَكَنْ دَعَى الكَلْبَ اضْطِرَارُ اقْتِيَاتِهِ

تَسَاوَيْتُمَا أَكْلا فَأشْقَاكُمَا بِهِ ** غَدَا مَنْ عَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنْ تَبَعُاتِهِ

وَمَا لِكَلامِ مَرَّ كَالرِّيحِ مَوْقِعٌ ** فَيَبْقَى عَلَى الإِنْسَانُ بَعْضُ سِمَاتِه

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حِفْظَ جَوَارِحِنَا عَنْ الْمَعَاصِي مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَنَقِّ قُلُوبَنَا مِنْ الحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالإحَنْ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ وَعُضَالِ الدَّاءِ وَخَيْبَةُ الرَّجَاءِ وَزَوَال النِّعْمَةِ. اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بَالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلا مَفْتُونِينَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَن رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِي الْحَاجَاتِ، وَمُجِيبَ الدَّعَواتِ، هَبْ لَنَا مَا سَألناهُ، وَحَقق رَجَاءَنا فِيمَا تَمَنَيْنَاهُ، يَا مَنْ يَملِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي صُدُورِ الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةِ مَغْفِرَتِكَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
ومِِمَّا يَتَأَكَّدُ اجْتِنَابِهِ وَلا يَتِمُّ الصِّيَامُ لِمَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهُ النَّظَرُ إلى الْمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ وَالرَّجُلِ الأَمْرَدِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ شَرْعِيَّةٍ لأَنَّ الْمَرْأَةَ كُلُّهَا عَوْرَةٌ لا يَصِحُّ أَنْ يَرَى مَنْ لَيْسَ مِنْ مَحَارِمِهَا شَيْئًا مِنْ جَسَدِهَا وَلا شَعْرَهَا الْمُتَّصِلِ بِهَا وَمَا تَفْعَلُهُ بَعْضُ نِسَاءِ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ التَّبَرُّجِ وَالتَّجَمُّلُ فِي الأَسْوَاقِ مَا هُو مُجَاهَرَةٌ بِالْمَعَاصِي وَتَشَبُّهُ بِنِسَاءِ الإفْرَنْجِ.
فَمِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ وَأَفْظَعَهَا خُرُوجُ الْمَرْأَةُ كَاشِفَةً رَأْسِهَا أَوْ عُنُقَها أَوْ نَحَرَهَا أَوْ ذِرَاعَيْهَا أَوْ سَاقَيْهَا أَوْ وَجْهِهَا أَوْ الْجَمِيعَ أَوْ الثِّيَابِ الْمُظْهِرَةِ لِلْمَفَاتِنِ أَوْ اللِّبَاسِ الشَّفَافِ الذي وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ لا يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ فَهَذَا دَاخِلٌ فِي التَّبَرجُّ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَمْنَعَ نِسَاءَهُ وَمَنْ لَهُ عَلَيْهِنَّ وِلايَة وَيَقْبَلْنَ مِنْهُ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ وَيُلِزْمُهُنَّ السِّتَر وَالتَّحفُّظَ ويَنْصَحَ إِخْوَانَهُ الْمُهْمِلِينَ لِلمُتَّصِفَاتِ بِذَلِكِ.
وَمِنْ الآدَابِ التِي أَمَرَ الله تَعَالَى بِهَا نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنهُنَّ القُدْوَةُ الْحَسَنَةَ فِي العَفَافِ وَالتُّقَى وَالتَّسَتُّرِ وَالْحَيَاءِ وَالإيمانِ وَمَعَ حَيَاءِ النَّاسِ مِنْهُنَّ وَاحْتِرَامِهِمْ لَهُنَّ مَا ذَكَرَهُ تَعَالى فِي سُورَةِ الأَحْزَابِ بِقَوْلِهِ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}.
قَالَ مُقَاتِلُ: التَّبَرُّجُ أَنَّهَا تُلْقِي الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا وَلا تَشُدُّهُ فَيُوَارِي قَلائِدَهَا وَقُرْطَهَا وَعُنُقَهَا وَيَبْدُو ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهَا وَذَلِكَ التَّبَرُّجُ.
وَقَالَ تَعَالى آمِرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فَلا يَنْظُرُوا إِلا لِمَا أَبَاحَ لَهُمْ النَّظَرُ إِلَيْهِ: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}.
قَالَ أَبُو حَيَّانٍ فِي تَفْسِيرِهِ: قُدِّمَ غَضُّ البَصَرِ عَلَى حِفْظِ الفُرُوج لأَنَّ النَّظَرَ بَرِيدُ الزِّنَا وَرَائِدُ الفُجُورِ وَالبَلْوَى فِيهِ أَشَدُّ وَأكْثَرُ لا يَكَادُ يَقُدْرُ عَلَى الاحْتِرَازِ مِنْهُ، وَهُو البَابُ الأَكْبَرُ إلى القَلْبِ وَأَعْمَرُ طُرُقِ الْحَوَاسِّ إِلَيْهِ وَيَكْثُرُ السُّقُوطُ مِنْ جِهَتِهِ.
وَقَالَ تَعَالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}، وَقَالَ تَعَالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}، قَالَ البَغَوِي: أَيْ خِيَانَتُهَا، وَهِيَ اسْتِرَاقُ النَّظَرِ إِلى مَا لا يَحِلُّ.
قَالَ مُجَاهِدُ: هُوَ نَظَرُ الأَعْيُنِ إلى َمَا نَهَى اللهُ عَنْهُ.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلاَمُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
تَخَيَّرَ مِنَ الطُّرْقِ أَوْسَاطَهَا ** وَعَدِّ عَنِ الجَانِب المُشْتَبِهْ

وسَمْعَكَ صُنْ عن سَمَاعِ القَبِيحِ ** كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنِ النُّطْقِ بِهْ

فَإِنَّكَ عِنْدَ اسْتِمَاعِ القَبِيحِ ** شَرِيكٌ لِقَائِلِهِ فَانْتَبِهْ

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلاوَتُهُ فِي قَلْبِهِ».
وَرَوَى الأصْبَهَاني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلا عَيْنًا غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، وَعَيْنًا سَهِرَتْ في سَبِيلِ اللهِ، وَعَيْنًا خَرَج مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ». وَأَخْرَجَهُ الإمَامُ أًحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ: صَحِيحُ الإِسْنَادِ. وَاعْتَرَضَهُ المُنْذِرِي.
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اضْمَنُوا لِى سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنُ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ». وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: وَالنَّظَرُ أَصْلُ عَامَّةِِ الحَوَادِثِ التي تُصِيبُ الإِنْسَانَ فَإِنَّ النَّظْرَةَ تُوَلِّدُ خَطْرَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الخَطْرَةُ فِكْرَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الفِكْرَةُ شَهْوَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الشَّهْوَةُ إِرَادَةً ثُمَّ تَقْوَى فَتَصِيرُ عَزِيمَةً جَازِمَةً فَيَقَعْ الفِعْلُ ولابد مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ.
وَفي هَذَا قِيلَ: الصَّبْرُ عَلَى غَضِّ النَّظَرَ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَلَمٍ بَعْدَه.
كُلُّ الحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ ** وَمُعْظَمُ النَّارِ مِن مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ

وَالعَيْنُ أَصْلْ عِنَاهَا فِتْنَةُ النَّظَرِ ** وَالقَلْبُ كُلُّ أَذاهُ الشُّغْلُ بِالفِكَرِ

كَمْ نَظْرَةٍ نَقَشَتْ في القَلْبِ صُورَةَ من ** رَاحَ الفُؤَادُ بِهَا في الأسْرِ وَالحَذَرِ

وَالمَرْءُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا ** في أَعْيُنِ العِيْن مَوقُوفٌ على الخَطَر

يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ ** لا مَرْحَبًا بِسَرُورٍ جَاءَ بِالضَّرَرِ

فَالقَلْبُ يَحْسُدُ نُورَ العَيْنِ إِذَْ نَظَرَتْ ** وَالعَيْنُ تَحْسُدُهُ حَقًا عَلَى الفِكَرِ

يَقُولُ قَلْبِي لِعَيْنِي كُلَّمَا نَظَرَتْ ** كَمْ تَنْظُرِينَ رَمَاكِ اللهُ بِالسَّهَرِ

فَالعَيْن تُورثُهُ هَمًا فَتُشْغِلُهُ ** وَالقَلْبُ بالدَّمْعِ يَنْهَاهَا عَنِ النَّظَرِ

هَذَانِ خَصْمَانِ لا أَرْضَى بِحُكْمِهِمَا ** فَاحْكُمْ فَدَيْتُكَ بَيْنَ القَلْبِ وَالبَصَر

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إليه القَوْم وأَيْقِظْنَا من سِنة الغَفْلَةِ والنَّوم وارزِقْنَا الاستعدادَ لِذَلِكَ اليَوْمِ الذي يَرْبَحُ فيه المُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وعامِلنَا بإحْسَانِكَ وَجُدْ علينا بِفَضْلِكَ وامْتِنانِكَ واجعلنا من عِبادِكَ الذينَ لا خَوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون، اللَّهُمَّ ارحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ واجعلْ رَغْبَتَنَا فِيما لَدَيْكَ، ولا تحرمنا بِذُنوبنا، ولا تَطْرُدْنَا بعُيوبنا، واغْفِرْ لَنِا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ منْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيّ: «يَا عَلي لا تُتْبِع النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِي.
وفي حَدِيثِ جَرِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الفُجَاءَةِ فَقَالَ: «اصْرِفْ بَصَرَكَ». وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ مِنْ امْرَأَةً مَا يُعْجِبُهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ».
وَعَنْ ابنِ مَسْعُودِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ». رَوَاهُ التِّرْمِذي.
وَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي النِّسَاءِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إلى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَوَّل مَرَّةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلا أَحْدَثَ اللهُ لَهُ عِبَادَةٌ يَجِدُ حَلاوَتَهَا». رَوَاهُ أَحْمَدُ.
لا تَخلُ بِامرأَةٍ لَدَيكَ بريبَةٍ ** لَو كُنتَ في النُسّاكِ مِثلَ بَنانِ

وَاغْضُضْ جُفُونَكَ عَنْ مُلاحَظَةِ النِّسَاء ** وَمَحَاسِنِ الأَحْدَاثِ وَالصِّبْيَانِ

إِنَّ الرِجالَ الناظِرينَ إِلى النِّسَاءِ ** مِثلُ الكِلابِ تَطوفُ بِاللُحمَانِ

إِن لَم تَصُن تِلكَ اللُحومَ أُسودُها ** أُكِلَت بِلا عِوَضٍ وَلا أَثمان

آخر:
لَيْسَ الشجاعُ الذي يَحْمِي فَرِيسَتَهُ ** عِنْدَ النِزَالِ ونارُ الحَرْبِ تَشْتَعِلُ

لَكِنَّ مَنْ غَضَّ طَرْفَا أَوْ ثَنَى قَدَمًا ** عَنْ الْحَرَامِ فَذَاكَ الدرِاعُ البَطَلُ

اللَّهُمَّ نَجّنا برحمتِكَ مِن النارِ وعافِنا من دار الخِزْيَ والبَوَار، وَأَدْخِلنا بفَضْلِكَ الجنةَ دارَ القَرار وعامِلْنَا بكَرَمِكَ وَجودِكَ يا كَرِيمُ يا غَفارُ وَاغْفِرْ لَنَا يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَل مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِي الْحَاجَاتِ، وَمُجِيبَ الدَّعواتِ، هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ، وَحَقق رَجَاءَنا فِيمَا تَمَنْيَنْاهُ، يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السائِلينَ وَيَعلمُ مَا في صُدُورِ الصَّامِتينَ أذقنا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
قَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ رَحِمَهُ اللهُ: يُقَالُ إِنَّ غَضَّ البَصَرِ عَنْ الصُّورَةِ التِي يُنْهَى عَنْ النَّظَرِ إِلَيْهَا كَالْمَرْأَةِ وَالأَمْردِ الْحَسَنِ يُورِثُ ثَلاثَ فَوَائِدَ:
إحْدَاهَا: حَلاوَةِ الإِيمَانِ، وَلَذَّتَهُ التِي هِيَ أَحْلَى وَأَطْيَبُ مِمَّا تَرَكَهُ للهِ، فَإنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ.
الفَائِدَةُ الثانيَةُ: أَنَّ غَضَّ البَصَرِ يُورِثُ نُورَ القَلْبِ وَالفَرَاسَةِ.
الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قُوَّةُ القَلْبِ وَثَبَاتِهِ وَشَجَاعَتُهُ فَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ سُلْطَانَ البَصِيرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ، فَإِنَّ فِي الأَثَرِ: الذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ.
وَإِذَا كَانَ النَّظَرُ إلى مَنْ لا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ مُحَرَّمًا فَالْخَلْوَةُ بِمَنْ لا تَحِلُّ مُحَرَّمَةٌ مِنْ بَابَ أَوْلى وَأَحْرَى لأَنَّ الوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِيَّةِ تَجِدُ لَهَا مَجَالاً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَثَوَرَانِ الشَّهْوَةِ يَجِدُ لَهُ مُبَرِّرًا فَيَضْعُفُ العَقْلُ عِنْدَ هَذَا، وَلا يَكُونُ لَهُ تَأْثِير عَلَى زَجْرِ الشَّهْوَةِ فَتَسُوقُهُ نَفْسُهُ الأَمَّارَةُ بالسُّوءِ إِلى الفَاحِشَةِ، لِهَذَا نَهَى الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَلْوَةِ فَقَدْ رُوِي عَنْ ابن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بامْرَأَةٍ إلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالْحَمْوُ: قَرِيبُ الزَّوْجِ كَأَخِيهِ وَابْنِ أَخِيهِ وَابْنِ عَمِّهِ.
وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلاَ لاَ يَخْلُو رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَان». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالتِّرْمِذِي فِي جَامِعِهِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَوْمِ الآخِر فَلا يَخْلُوَنَّ بامْرَأَةٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَحْرَمٌ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الكَبِير.
وَرَوَى الطَّبَرَانِي أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِيَّاكَ وَالْخُلوَةُ بِالنِّسَاءِ وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَلا رَجُلٌ بامْرَأَةٍ إِلا وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا وَلأَنْ يَزْحَمَ الرَّجُلُ خَنْزِيرًا مُتَلِطِّخًا بِطِينٍ أَوْ حَمَأةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَزَحَمَ مَنْكِبُهُ مَنْكِبَ امْرَأَةٍ لا تَحِلُّ لَهُ».
وَمِنْ أَخْطَرِ مَا يَكُونُ عَلَى النِّسَاءِ خِدْمَةُ الرِّجَالِ فِي البُيُوتِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ اخْتِلاطٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ خُصُوصًا إِذَا كَانَ الرُّجُلُ الْمُسْتَخدَمُ مِنَ الشُّبَّانِ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَسْمَةُ جَمَالٍ فَأَقْرَبُ إِلى الْخَطَرَ وَقَدْ يَكُونُ أَشَبَّ مِنْ صَاحِبِ البَيْتِ وَأَجْمَل وَهُوَ مَلازِمٌ لِلبَيْتِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَهُوَ تَحْتَ أَمْرِ الزَّوْجَةِ أَوْ نَحْوِهَا وَفِي إِمْكَانِهَا إِبْقَاؤُهُ أَوْ طَرْدُهُ فَالْخَطَرُ عَظِيمٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ ذَا شَرَفٍ وَمَكَانَةٍ، وَتَأَمَّلْ قِصَّة امْرَأَةِ العَزِيزِ مَعَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامِ حَيْنَ رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنْ شَرِّهِنَّ وَكَيْدِهِنَّ فَعَصَمَهَ اللهُ عِصْمَةً عَظِيمَةً وَحَمَاهُ فامْتَنَع أَشَدَّ الامْتِنَاعِ عَنْهَا وَاخْتَارَ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا في غَايَةِ مَقَامَاتِ الكَمَالِ أَنَّهُ مَعَ شَبَابِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ تَدْعُوهُ سَيِّدَتُهُ وَهِي امْرَأَةُ عَزِيزِ مَصْرَ وَهِيَ مَعَ هَذَا في غَايَةِ الْجَمَال وَالْمَالَ وَالرِّيَاسَةِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ وَيَخْتَارُ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ اللهِ وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ مِنْ السَّبْعَةِ الذِينَ يُظلُّهُمْ اللهُ فِي ظِلِّهِ: «رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتَ مَنْصَبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافَ اللهُ». وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّم.
مَا مِنْ جَمِيلٍ مِنْ الدُّنْيَا وَلا حَسَنٍ ** إِلا وَمِنْ فَضْلِ رَبِّ العَرشِ ذِي الْمِنَنِ

أَعْظِمْ بِهَا مِنَّةً لَكِنْ يُخَفِّفُها ** شكْرِي لِرَبِّي فِي سِرِّي وَفِي عَلَن

اللَّهُمَّ يَسر لَنَا سَبِيلَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَا وَاجْعَلْ مَعُونَتَكَ العُظْمَى لَنَا سَنَدًا وَاحْشُرْنَا إِذَا تَوَفَّيْتَنَا مَعَ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.